الحلقة الحادية عشرة
مرّ وقت قصير وعاد المنتصر من المخازن بنفس الهيئة التي كان عليها في ذهابه إليها، ولكنه هذه المرة يجرّ وراءه الرعاع الخمسة مكبلين من أيديهم في حبل طويل، وما كان هذا المشهد ليدهش الناس الذين اجتمعوا من كل جهة وإن خفقت قلوبهم خوفاً على هؤلاء الرجال، الذين لا يعلمون ما الذي جنته أيديهم فدفعهم لهذا العذاب، بقدر ما أدهشهم منظر كبير حراس المخازن وأتباعه وهم مكبلين أيضا من أيديهم، يسحبهم الخيّالة خلفهم مثلما يسحب الراعي ماشيته، ووقف الركب بعد أن اجتازوا صفّ الزبانية الذين كانوا يحيطون بالمسرح، والتقى المنتصر بالناصر وولديه "يوسف" و "شوكت". فنظر المنتصر إلى أخيه وخاطبه قائلاً: "الطاعة وحدها لا تشبع غرورنا" فيرد عليه الناصر بنبرة حادة تنطوي على السخرية: "لو أنهم أطاعونا دائماً لأهلكناهم، وأتينا بأناس غيرهم يعصوننا فنعذب من نشاء منهم، ونغفر لمن نشاء، لا قيمة لهؤلاء الرعاع إلاّ بمقدار ما يمرغون أنوفهم تحت أقدامنا يطلبون العفو".
ثم يلتفت إلى كبير حراس المخازن فيحدجه بنظرة نارية، سائلاً إياه بصوت كالرعد: "أين كنت يا سليل الكلاب عندما أحرقت تلك الديدان المخازن؟" فيجيبه الرجل على الفور بصوت متقطع وقد فاضت الدموع على وجنتيه: "مولاي، إني أعترف بذنبي، لقد أخذتنا سنة من النوم، فاغفر لنا ذنبنا، أتوسل إلى مولاي أن يفعل ، وأن يرأف بنا". فيزجره الناصر في غضب شديد: "وهل اعتدت أن تطلب العفو وأنت قائم على قدميك يا سليل الكلاب ؟!" فيخر الرجل على ركبتيه وقد أحنى رأسه قائلاً: "مولاي" ... " لن تنجو بذنبك وإن قضيت ما بقي من عمرك في طاعتي". ثم يلتفت بناظريه إلى الرعاع الخمسة سائلاً إياهم:
"وأنتم أيتها الديدان القذرة ما الذي دفعكم إلى ما أقدمتم عليه؟ أهو مسّ من الشيطان؟ أم كفر بما أنعمنا به عليكم؟" فيجيبه "عايش" وقد ضاق صدره وانفجر بركان غضبه متذكراً ما قاله لهم كبير الحراس ( ليس للضعيف إلاّ الحسرة، لقد نسيتم الله فنسيكم، إنّ لكم رباً عادلاً فاهرعوا إليه). صائحاً فيهم بصوت ثائر: "اسمعوا يا أعداء الله، كلمات أموت بعدها حراً، ما أنعمتم علينا بشيء، إنما المنعم هو الله، والعاطي هو الله، والمانع هو الله، ما أنتم إلاّ جند من جنود الشيطان، آن للأرواح المحبوسة أن تتحرر، والأفواه المكممة أن تتكلم، والقلوب الجاهلة أن تتعلم، فلو أنّ لي بكم قوة لفقأت أعينكم، وقطعت ألسنتكم، وحرقت قلوبكم، ما أنتم إلاّ شياطين من نسل إبليس، تزعمون أنكم آلهة، أنّى ذلك؟ هل هناك آلهة من طين؟؟!! هل هناك آلهة من طين؟؟!!"
فيصيح الناصر في أعوانه وقد اضطربت الخيل: "احرقوه، احرقوا هذا الكافر أمام أعين الناس جميعا". فيجتمع عليه نفر من الزبانية يفكون وثاقه ثم يصلبونه على شجرة جافة، وانهالوا عليه ضرباً بالسياط، ثم أراق أحدهم "الجاز" على رأسه حتى سال على جسده كله، وما كان من الناصر إلاّ أن أشعل النيران في جسده بشعلة أعطاه إياها أحد الحراس، وكانت الشهادتان آخر كلمات نطق بها عايش، فغمر الحزن قلوب البلدة كلها، ولكنّ" إحسان" كانت أشدهم حزناً، فقد كانت تحبه حباً جماً، وأقسمت أن تنتقم من الناصر الذي أصدر أمراً بأن يُحرق كل يوم واحد من الرعاع الأربعة نكالاً بهم، وجزاءً لجرأتهم على أسيادهم. أما كبير الحراس وأعوانه فقد أمر الناصر أن يسوقهم المنذر إلى دار التوبة، حيث يذوقون مرارة المعصية على أيدي "المنسي" وأعوانه.
ثم هاج الزبانية في الناس يضربونهم بالسياط حتى صرفوهم إلى أعمالهم، بعد أن تفحّم عايش أمام أعينهم، دون أن تثور لهم ثائرة، وظل الرجال الأربعة مقيدين في جذوع الأشجار، لا يذوقون طعاماً ولا شراباً، وانصرف الزبانية عنهم، فقد علم الناصر أن لا أحد سيجرؤ على الاقتراب منهم بطعام أو شراب، وتركوهم يعانون حرارة الشمس نهاراً، وبرودة الجو ليلاً.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire