vendredi 9 février 2018

الحلقة العاشرة

  دخل المنذر إلى الجناح الخاص بمولاه المنتصر بعد أن فتح له الخادم الباب فوجد أمامه ولديّ المنتصر "عزّام" و "شكري" وهما يتناولان القهوة، وما أن رآه عزام على حالته هذه حتى حدجه بنظرة شك، ثم نهض واقترب منه يسأله في لهفة: "ماذا وراءك يا منذر؟ لماذا أنت مرتبك هكذا؟" ثم أمره شكري قائلاً: "تكلّم يا منذر. ماذا هنالك؟" فأجابه المنذر قائلاً: "مولاي.. لا أعرف ماذا أقول... ولكنني أتاني رسول من كبير حراس المخازن يخبرني أنّ الرعاع قد أشعلوا النيران في أحدها". فانتفض شكري واقفاً وقد قذف المنذر بنظرة طويلة شاردة شاركه فيها أخوه عزام الذي سأله في غير تصديق: "ماذا تقول يا منذر؟!! لا.. لا أصدق، هل تهذي يا رجل! لا يجرؤ الرعاع مهما بلغت بهم الشجاعة على إتيان هذا الأمر". عندئذ تدخل "أمل" من حجرة مجاورة إلى حيث يجتمعون وقد استمعت إلى حديثهم فتقول ساخرة:

 "لقد أشعلتم النيران في قلوبهم فقتلتم منهم من قتلتم، وهتكتم أعراض من هتكتم، فلا جناح عليهم أن يحرقوا مخازنكم بل وقلوبكم إن استطاعوا". فيمسكها عزام بقوة من عضدها وقد التوت شفتاه غضباً ويصيح فيها: "اصمتي، لو كان لي أمر عليكِ لقتلتك بيديّ هاتين وألقيت بك في البراري، أو أدفنك في مقابر الرعاع". ولكنها تنظر إليه نظرة ساخرة دون أن تتكلم، ثم تخرج "سعاد" من حجرة أخرى مرفوعة القامة، ترفل في فستانها القرمزي كأنها ملكة من العصور القديمة، فتتحدث إليهم في غضب شديد: "كأنّ الدماء التي تجري في عروقها ليست دماءً مقدسة، كأنها ليست ابنة المنتصر، لقد بث فيها "ياسين" سمومه، لو كنت مكان أبي لأمرت بدفنك حيّة، ولأقنعت عمي الناصر أن يُلقي بابنه ياسين إلى "دار التوبة"، فيذوق من ألوان العذاب ما ينير بصيرته، أو يعلق فوق أشجار الكافور تتخطفه الطير". 

 "ما أحسبه قلباً هذا الذي يكمن في صدرك، بل جذوة من نار مستعرة، ولكنها لن تأكل إلاّ نفسها عندما لا تجد من تأكله".
لقد حاولت سعاد أن تبتلع غضبها تجاه هذا الكلام الذي أشعل نيران صدرها، ولكنها لم تستطع، فانفجرت كالبركان تصيح في المنذر: "ماذا تنتظر ؟ أحرقوا الرعاع كلهم، صبّوا عليهم العذاب صباً، أطلقوا النيران في صدورهم ونحورهم".

عندئذ يظهر المنتصر في كامل هيئته، ويشرع في نزول السلم في عظمة بالغة، وهو يقلّب عينيه فيهم جميعاً، فهدأت أصواتهم، والتزموا الصمت والسكون كأنهم خشب مسندة، ثم أفسحوا له الطريق حتى وقف أمام المنذر، فرمقه بنظرة عميقة نفذت إلى مكنون صدره، فسأله: "ماذا هنالك يا منذر؟" فيجيبه المنذر دون تردد: "لقد أشعل الرعاع النيران في أحد المخازن". وما أن سمع مولاه ذلك حتى لمعت عيناه فجأة، وانبثقت منهما ابتسامة باهتة، يتقاسمها الغضب والاستهانة، وقد تعجب الجميع لابتسامته وسكونه، حيث بدا هادئاً كالليل، ثم وضع أصابع كفه الأيمن أسفل ذقن المنذر، ورفع رأسه برفق وأطال النظر في عينيه قائلاً في هدوء بالغ: "نحن من نشعل النيران لنحرق بها من يخرج عن طاعتنا، وما أمرتهم بالطاعة ليطيعوا، ولكن ليعصوا، وإلاّ فمن أعذب؟!" ثم التفت إلى سعاد قائلاً لها: "أخبري عمك الناصر  بما علمت، وأخبريه أيضا أننا ذهبنا إلى المخازن وأننا سنلاقيه عند السواقي بعد ساعة واحدة، هيا اتبعوا مولاكم" ثم يخرج المنتصر يتبعه المنذر وولداه عزام وشكري، فيمتطي المنتصر جواده الأبيض، ويتوجهون جميعاً ومعهم نفر من حراس القصر إلى المخازن، يتقدمهم المنتصر وخلفه مباشرة عزام وشكري والمنذر.

وما أن رأى الرعاع موكبهم هذا حتى دبّ الذعر  في قلوبهم، فلم يكن ظهور الناصر أو المنتصر على هذه الهيئة إلاّ لأمر هام، أو مصيبة قد وقعت، وأصبحوا يتوقعون شراً قريباً، خاصة بعد أن توجّه بعض الخيّالة إلى منطقة السواقي، وهي منطقة مشئومة تنخلع لها قلوب الرعاع، ولكنها ذات معزّة خاصة في قلوب الآلهة المزعومة، فهي "المسرح" الذي يجدون عليه متعتهم من التعذيب وإراقة الدماء، لقربها من البلدة أولاً، فيكون من يعتلي خشبة المسرح عبرة لمن تحدثه نفسه بالمعصية من الرعاع، ولأنها ذات طبيعة خاصة، فهواؤها الكئيب وأشجارها الجافة في معظمها، واتساع رقعتها، كان له أعمق الأثر في إرهاب القلوب وتخويفها.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire